فتحي أبو حطب
لقد اتخذ النضال من أجل الحقوق المشروعة أشكالا متعددة تراوحت بين العنف واللاعنف على طرفي خط مستقيم وبينهما تنويعات، من أجل ممارسة أشكال ضغط متنوعة تؤدي إلى ردع الخصم، أو تعديل مساره، أو تحجيم قوته، أو هزيمته.
ومفهوم النضال غير العنيف نعني به: "أساليب وأدوات اجتماعية ونفسية واقتصادية وسياسية لممارسة الضغوط دون اللجوء إلى استخدام القوة المباشرة"، وتتضمن هذه الأساليب ما يقرب من مائتي أداة احتجاج وضغط تمثل ما يمكن تسميته "أسلحة النضال اللاعنيف".
ويمكن القول بأن الاختلاف بين أشكال النضال هو في حقيقة الأمر اختلاف في تفسير مفهوم القوة حيث يرى أنصار النضال العنيف والمسلح القوة في صورتها الأولية والنمطية والمتمثلة في الإيذاء المادي للخصم، وهو أمر لا يمكن معارضته ونحن نتحدث عن حق أمة في الدفاع عن وطنها المحتل كما هو الحال في العراق وفلسطين.
في المقابل يفسر أنصار النضال اللاعنيف مفهوم القوة بشكل مختلف، فهم يراهنون على القوة الكامنة في المجتمع بأفراده وجماعاته ومؤسساته ويرون قوة هائلة في الضغوط التي يمكن لكل هؤلاء ممارستها على أي خصم لا سيما إذا اتسمت بالتنظيم والتصاعد، مستغلين بذلك إمكانات النضال اللاعنيف الذي اكتسب أهمية كبيرة كخيار وحيد متاح في لحظات فارقة من نضال مجتمعات عديدة في مواجهة أنظمة سياسية دكتاتورية، بعد أن أثبتت التجارب فشل استخدام العنف المباشر لتفاوت ميزان القدرات المادية وغلبة قوة القمع، بالإضافة إلى التكلفة العالية.
ومن ناحية أخرى شكلت نجاحات العديد من شعوب العالم في التخلص من أنظمتها السياسية المستبدة عن طريق النضال غير العنيف دفعة قوية جعلت منه إستراتيجية نضالية بديلة ومشروعة.
ورغم تنوع أساليب المواجهة بين العنف واللاعنف، فإن اللافت للنظر أن جماعات العنف السياسي دوما هي الأعلى صوتا والأكثر لفتا للنظر.
التحرك من النقطة صفر
النقطة صفر هي مساحة الوعي التي صادرتها الأنظمة الاستبدادية في عقول الكثيرين، لذا فالمطلوب من حركات المعارضة أن تبدأ من هذه النقطة.
والسبب الرئيسي وراء عجز وسلبية بعض الشعوب هو هذا الاعتقاد السائد بأن العنف هو الأسلوب الوحيد للمواجهة وهو أمر غير صحيح، فالعنف لم يعد خيارا مطروحا ولا مقبولا في رحلة بحث الشعوب عن لحظة خلاصها من أنظمتها السياسية المستبدة وأصبح العنف واحدا فقط من خيارات كثيرة ربما صارت أكثر فاعلية وتأثيرا من الانقلابات والثورات.
فمساوئ استخدام العنف تتمثل في النقاط التالية:
1 - تتفوق الأنظمة الدكتاتورية في مواجهة خيار العنف، بل وفي توظيفه لصالحها.
2 - تكلفته عالية على المستويين البشري والمادي.
3 - خيار العنف يفقد الدعم والتعاطف الشعبي والدولي على المدى الطويل.
إن تاريخ الأنظمة المختلفة في العالم الثالث حافل بالانقلابات العسكرية، وفي كل مرة يحدث فيها انقلاب يكون مبرر ذلك هو تردي الأوضاع ورغبة من قاموا بالانقلاب في التصحيح، ومن هنا جاء اصطلاح الانقلابات والثورات "التصحيحية" للتخلص من أنظمة ظلت تمارس القمع والاستبداد لفترات طويلة، الأمر الذي استغله من قاموا بتلك الانقلابات لكسب تأييد شعوبهم.
إلا أن الأنظمة الجديدة التي أتت بها الانقلابات لم تمثل في أغلب الحالات التاريخية تصحيحا ولا بداية جديدة كما كان متوقعا، وهنا يكمن الدرس التاريخي الذي يدفعنا إلى التحفظ على خيار الانقلابات، فاحتمالية تحول من يقومون بالانقلابات تحت شعار الحرية إلى أنظمة دكتاتورية تظل احتمالية قائمة، كما أن خيار الانقلابات يفتح الباب لانقلابات مشابهة في المستقبل يقوم بها من يملك مفاتيح القوة ولا يؤسس في الغالب لتقاليد الحريات المدنية والتحول الديمقراطي.
وفي هذا السياق يجب أن نشير إلى أن خيار الانتخابات الذي تلجأ إليه الأنظمة الدكتاتورية لا يؤدي لتحول ديمقراطي، وليس هو بالضرورة ما نعنيه باللاعنف؛ لأن إجراء انتخابات يؤدي إما للتلاعب بنتائجها أو إلغاء نتائجها بالكامل إذا أدت إلى فوز المعارضين مثلما حدث في بورما عام 1990 ونيجيريا عام 1993 وفي الجزائر عام 1991.
أضف إلى ذلك تعمد الأنظمة الدكتاتورية إقامة هذه الانتخابات في ظروف لا توفر المعايير المطلوبة لإجراء انتخابات نزيهة تضمن فرصا متكافئة لكل المتنافسين في وقت يكون النظام الحاكم فيه قادرا على تسخير كل الإمكانيات والمقدرات لخدمة مرشحيه على حساب قوى المعارضة.
وهنا يكون اللاعنف ليس قبول تلك الألعاب القمعية المستترة بل مواجهتها بالمقاومة اللاعنيفة التي تفقدها شرعيتها، مثل خيار رفض ومقاطعة تلك الانتخابات، أو اشتراط معايير لإضفاء الشرعية عليها لا تقبلها النظم القمعية بداهة مثل الرقابة المدنية المستقلة على الانتخابات، والرقابة القضائية المستقلة، والتأكد من دقة كشوف الناخبين عبر لجنة وطنية مستقلة، وغيرها.
وعندما ترفض الأنظمة ذلك فإن المعارضة آنذاك من حقها أن تلجأ لسحب الشرعية بالمقاطعة الإيجابية أي التي تستمر في المراقبة الشعبية وتقويم المخالفات التي تمت ورصدها وتعبئة الجهود السياسية لتكوين تحالفات معارضة أوسع عبر التيارات إلى أن تتمكن من إضعاف النظام وإسقاطه في النهاية.
فخيار اللاعنف يحتاج لتنظيم الجهود وتعبئة القوى وإقامة التحالفات، فهو ليس خيارا بسيطا ساذجا بل غاية في التعقيد والعمق، ويحتاج لمهارة سياسية واجتماعية وتفاوضية وتنظيمية وتعبوية عالية.
وهنا قد يفتح النظام بابا للتفاوض أو ما يسمى "الحوار الوطني" خاصة في ظل الضغوط الدولية، لكن توقيت قبول المعارضة له من أهم القرارات لأن القبول لهذه الحيلة من النظم يحمل عدة مخاطر مباشرة:
1 - تؤدي المفاوضات مع الأنظمة الدكتاتورية في ظل هيمنتها الأمنية والسياسية الكاملة إلى تنازلات في قضايا جوهرية في الغالب، منها رحيل النظام ذاته وتأسيس شرعية جديدة.
2 - قد يمثل محض قبول التفاوض مع نظام باطش وفاقد للشرعية اعترافا ضمنيا من قبل المعارضة بنظام فاسد وقبول "شراكته"، وهي مسألة تحتاج إلى نظر وحسابات دقيقة تطالب النظام بتقديم تنازلات وتغييرات محددة قبل بدء التفاوض.
3 - تمنح المفاوضات الأنظمة الحاكمة الوقت الكافي لالتقاط أنفاسها وترتيب صفوفها وهو ما يمثل فرصة للحفاظ على القوة والثروة.
4 - تعرض المفاوضات رموز المعارضة للانكشاف خاصة حين تكون حركات المعارضة سرية وهو ما يشكل خطرا عليهم ويعرضهم للبطش وربما الموت.
اللاعنف والدعم الخارجي
الفارق كبير بين بذل جهد لكسب تعاطف ومساندة الرأي العام الداخلي والعالمي بناء على أسس أخلاقية وإنسانية كهدف مشروع يضغط على الأنظمة الدكتاتورية وبين اللجوء إلى قوة خارجية بعينها والرهان عليها للتغيير وتقديم الخارج على الداخل لما له من انعكاسات خطيرة، أهمها:
1 - تساعد الدول الأجنبية الأنظمة الدكتاتورية عادة من أجل الحفاظ على مصالحها التي تناقض مصالح الشعوب، ومساندة قوى التغيير يكون في الغالب رهن الحفاظ على نفس المصالح وبالتالي فهو يجهض أجندة التغيير.
2 - الضغوط التي تمارسها الدول الأجنبية على الأنظمة الدكتاتورية تكون من أجل الحصول على مكاسب اقتصادية لا تتحقق إلا في ظل الاستقرار، وخشية أن يؤدي الركود لتغيير جذري يفقدها السيطرة الإستراتيجية، فهو ليس من أجل الديمقراطية لذاتها التي تكون أول ضحايا حسابات المصالح الدولية عادة.
3 - لا تتحرك الدول الأجنبية لتقديم المساعدات الفعلية إلا إذا نجحت المقاومة الداخلية في هز النظام الدكتاتوري وحولت تركيز العالم إلى طبيعته الهمجية وكسبت التعاطف العالمي، وعلى ذلك فالمهمة من أجل التغيير تقع على عاتق حركات التغيير بالأساس.
4 - قد يؤدي تدخل الدول الأجنبية إلى سيطرتها على الدولة وليس تحريرها من النظم الباطشة، بل قد يؤدي إلى الاحتلال وفوضى أكبر.
5 - تحاول الأنظمة الدكتاتورية في الغالب كإستراتيجية دفاعية الاستفادة من تدخل الدول الأجنبية، وتقمع حركات المعارضة تحت شعار السيادة والاستقلال، وما أسهل أن ترتدي ثوب المدافع عن الوطنية والقومية ضد محاولات الفرض الخارجي على إرادة الأمة، وأن تتحول في لحظة من خطاب الانفتاح الذي يسلم مفاتيح القلعة للخارج عمليا إلى خطاب الدفاع عن القلعة.
أسطورة سيد القرود
في كتابه "من الدكتاتورية إلى الديمقراطية" يذكر "جين شارب" المؤلف وأحد أهم المنظرين لخيار "اللاعنف" أسطورة سيد القرود وهي حكاية صينية من القرن الرابع عشر عن رجل عجوز كان يعيش في ولاية تشو الإقطاعية، ولقد استطاع هذا العجوز أن يبقى على قيد الحياة من خلال استغلاله لمجموعة من القرود حيث كان يأمرهم كل صباح بالذهاب إلى الغابة وجمع الفاكهة على أن يقدم له كل قرد عشر ما جمعه من الفاكهة وكان يعاقب كل قرد لا يلتزم بذلك بالضرب الشديد ودون رحمة، ورغم معاناة القرود الشديدة فإنهم لم يستطيعوا الشكوى أو التمرد على ذلك.
وفي يوم من الأيام سأل قرد صغير باقي القردة هل زرع هذا العجوز كل هذه الأشجار؟ فأجابوه بلا، ثم سألهم ثانية لماذا إذن نعتمد على هذا الرجل ونخشاه ولماذا لا نعتمد على أنفسنا؟ وهنا أدركت القردة ما يعنيه القرد الصغير ونفذوا خطة بسيطة خلصتهم من العجوز المستبد حيث كسروا قضبانهم واستولوا على الفاكهة التي خزنها العجوز ثم هربوا وعندما استيقظ العجوز من نومه ولم يجد القرود ولا الفاكهة كان بالفعل قد فقد مصدر قوته ووجوده فانتهت حياته وانتهت القصة.
لقد اعتمدت خطة القردة على أهم ركيزة يعتمد عليها النضال غير العنيف عند مواجهة الأنظمة الدكتاتورية وهي مصادرة منابع قوة النظام التي تضمن له البقاء والاستمرار وحرمانه منها تدريجيا.
بين أقلية عنيفة وأكثرية صامتة وسلبية وقفت العديد من الشعوب تحمل معاناتها الدائمة من أنظمتها السياسية، ورغم المحاولات القليلة التي تقوم بها بعض حركات المعارضة التي تتبنى خيار التغيير فإن هذه المحاولات تظل عاجزة عن الاستفادة من القوه الكامنة في أساليب النضال اللاعنيف المتعددة والتي اختزلتها حركات المعارضة في بعض المظاهرات والاحتجاجات، في مواجهة أنظمة تمتلك كل مصادر القوة التي تساعدها على البقاء والاستمرار في الحكم.
إن فهمنا لطبيعة ومصادر قوة الأنظمة الاستبدادية يمثل الخطوة الأولى لكي نفهم طبيعة النضال اللاعنيف الذي يعتمد على أساليب وأدوات اجتماعية ونفسية واقتصادية وسياسية لممارسة الضغوط دون اللجوء إلى أساليب عنف مباشر.
وتتضمن هذه الأساليب ما يقرب من مائتي أداة احتجاج وضغط تمثل ما يمكن تسميتها أسلحة النضال اللاعنيف. وتبقى هذه الأسلحة بلا قيمة حقيقية إذا لم يكتمل رصدنا لطبيعة ومواطن القوة في المجتمع والتي إذا لم توظفها حركة المعارضة فستكون قوة يرتكز عليها النظام الحاكم ويستمد وجوده منها.
إننا ونحن نتحدث عن الطاقة الكامنة في الشعوب وعما يمكن أن يفعله شعب قرر مواجهة نظامه الحاكم بشكل غير عنيف إنما نتحدث أولا وقبل أي شيء عن انبعاث الوعي وشيوع عدم رضا هذا الشعب عن نظامه ورفضه له بخيار اللاعنف والجهاد المدني غير المسلح.
والحق أن ما نعنيه بكلمة شعب ينقسم لكيانين منفصلين رغم العلاقة العضوية التي تربط بينهما وهما:
1 - الأفراد وجماعات المواطنين.
2 - المؤسسات والمنظمات المستقلة وكيانات وشبكات العائلات الكبيرة والمؤسسات الاقتصادية والنقابات والمجموعات الأدبية وكذلك الأحزاب السياسية والمؤسسات الدينية والثقافية والأندية الرياضية.
وحركات المعارضة -وهي تطرح وجهة نظرها في التغيير وفي ضرورة مصادرة عناصر قوة النظام الحاكم- عليها أن تضع في اعتبارها أنها تتحرك على طريقين متوازيين.
فهي (حركات المعارضة) من ناحية تخاطب أفرادا تتزايد أهميتهم على المدى الطويل وهم في النهاية هدفها الأول، ومن ناحية أخرى تخاطب مؤسسات وجماعات ومجموعات تمتلك قدرة أسرع وأقوى على التغيير وتمتلك قوة اجتماعية وعددية كبيرة وقادرة على العمل المستقل والخروج من تحت سيطرة النظام الحاكم، حيث إن هذه المؤسسات والجمعيات تتمتع باستقلالية -نظرية وقانونية على الأقل- يمكن تحويلها إلى استقلالية فعلية، مما يمكنها من إجهاض أهم مصدر من مصادر قوة الأنظمة، وهو ما يفسر اهتمام وإصرار الأنظمة الحاكمة في العالم العربي على السيطرة على هذه المؤسسات والمنظمات مثل النقابات والاتحادات الرياضية والطلابية وغيرها.
ويحدد "جين شارب" العوامل التي يتوقف عليها نجاح الأفراد والمؤسسات في السيطرة على مقومات النظام الحاكم وقطع التعاون معه في النقاط التالية:
1 - الرغبة النسبية للمواطنين في تنظيم قوتهم.
2 - عدد المنظمات والمؤسسات المستقلة.
3 - القوة النسبية لهذه المنظمات والمؤسسات ودرجة استقلاليتها في الحركة.
4 - مصادر القوة التي تمتلكها وتسيطر عليها.
5 - حجم القوة الاجتماعية التي تمتلكها ويمكن أن تستخدمها.
6 - القدرة النسبية للمواطنين على حجب رضاهم عن الحاكم وعدم تعاونهم معه.
تشريح النظام
إن أنظمة الحكم تعتمد في وجودها واستمرارها في الحكم على تعاون الشعب ومؤسسات المجتمع، ولنا أن نتخيل ما الذي يعنيه عدم التعاون مع هذه الأنظمة لنتمكن ليس فقط من فهم طبيعة ودور القوة في النضال اللاعنيف ولكن لكي نفهم بشكل دقيق مصادر القوة غير الذاتية التي تمتلكها أنظمة الحكم والتي يمكن حصرها في النقاط التالية:
1 - السلطة: ونقصد بها إيمان الناس بشرعية النظام وأن طاعته واجبة.
2 - الموارد البشرية: وتمثل الأشخاص والجماعات التي تطيع وتتعاون مع النظام الحاكم وللموارد البشرية أهمية عددية ووظيفية بالنسبة للنظام، ويسعى دوما لتجديد النخبة وضم الأنصار.
3 - المهارات والمعرفة: وهي التي يحتاجها النظام لأداء أعمال محددة، ويقوم بها الأشخاص والجماعات المتعاونون مع النظام.
4 - المصادر المعنوية: وهي العوامل النفسية والفكرية التي تحث الناس على طاعة ومساعدة الحكام مثل تسخير رجال الدين والإعلام والمفكرين والمثقفين لذلك.
5 - المصادر المادية: وهي درجة سيطرة أو تحكم النظام الحاكم ورقابته على المصادر المالية والمصادر الطبيعية والنظام الاقتصادي ووسائل الاتصال والمواصلات.
6 - نظام العقوبات: وتشمل مجموعة العقوبات التي يستخدمها أو يهدد باستخدامها النظام في مواجهة معارضيه في حالات العصيان، وتهدف هذه العقوبات إلى ضمان خضوع الشعب وتعاونه مع النظام الحاكم قسرا.
لذا فإن عملية حرمان النظام الحاكم من مصادر قوته السابقة وتجفيف منابع تلك القوة خطوة تهدف إلى إصابته بالشلل وعدم الفاعلية، والرهان الذي يقوم عليه النضال اللاعنيف هو إقناع الشعوب بضرورة عدم التعاون مع النظام والاحتجاج على ممارساته وهو أمر ليس شديد الصعوبة في حال توافر الأسباب والحجج الملموسة والمقنعة للقيام بذلك.
ويرى المنظرون للنضال اللاعنيف أن أقصر طريق لإقناع الناس بضرورة مواجهة النظام يبدأ من وجود مشاكل اقتصادية ملموسة ومرتبطة عادة بقضايا الفساد والممارسات القمعية وعدم الشفافية من قبل النظم الاستبدادية، وكلها أمور يمكن استغلالها بشكل متصاعد ومدروس على أن يتزامن ذلك مع استغلال القوة المتاحة في المجتمع.
نقاط ضعف النظام
تركز أسلحة النضال غير العنيف على نقاط ضعف الأنظمة الدكتاتورية والتي يمكن من خلالها توجيه ضربات موجعه قد تؤدي في حال استمرارها إلى انهيار النظام وفيما يلي عرض لأهم نقاط ضعف أي نظام سياسي:
1 - اعتماد النظام السياسي على التعاون الذي يقدمه الأفراد والمجموعات والمؤسسات كمصدر رئيسي لقوته بمعنى أنها قوة غير ذاتية كما قلنا سابقا ومجرد تخيل نظام سياسي بدون هذا التعاون يعني انهياره فعليا.
2 - المنافسات الشخصية والخلافات التي تحدث بين أفراد هذا النظام والتي يمكن استغلالها وتوظيفها لكسب أفراد للمعارضة أو لإضعاف النخبة.
3 - عدم فاعلية، وأخطاء مؤسسات الحكم وقصورها الناتج عادة عن سوء الإدارة وضعف الفاعلية وتردي الأداء لغياب الدافعية والإخلاص.
4 - قضايا الفساد التي يتم اكتشافها ويكون أفراد النظام متورطين فيها أو ساكتين عليها.
5 - معاناة المواطنين وتدني مستوى معيشتهم.
إن نقاط الضعف السابق ذكرها تمثل المساحات الأساسية التي تتعامل معها حركات المعارضة مع الأخذ في الاعتبار أن الحديث عن استغلال نقاط ضعف النظام هو في الحقيقة تأكيد على مبدأ أصيل في المواجهة غير العنيفة وهو ضرورة فهم الخصم جيدا واكتساب حساسية قراءة خريطة نقاط الضعف المتوقع وتحولاتها.
إن الصراع بهذا المعني يكتسب صفة الإدراك الواعي والمتابعة الذكية لما يجري، والوقوف على أرض الواقع من أجل حشد أكبر عدد من المؤيدين وتحين الفرص المناسبة.
بين النظرية والواقع
تظل الكتابة عن النضال اللاعنيف وعن أساليبه المتعددة تنظيرا لما كان عفويا في لحظة ما، ورغم أهمية ذلك المتمثلة -على أقل تقدير- في توثيق الخبرات الإنسانية المختلفة في تعاملها مع الظلم والاستبداد فإنه تبقى لكل شعب مساحته الخاصة التي تجعل الباب مفتوحا بشكل دائم لأساليب جديدة من ناحية، ومن ناحية أخرى لإعادة استخدام وتدوير الأساليب القديمة بشكل جديد.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن حتى نخرج من الحالة التنظيرية التي نحن بصددها هو: كيف يمكن للشعوب العربية الاستفادة من خبرات وقدرات النضال اللاعنيف وما هي الصعوبات التي تمنع حدوث ذلك؟.
إن ضعف وغياب مؤسسات ومنظمات المجتمع المدني المستقلة عن المجتمعات العربية، وكذلك تدخل الدولة في النقابات وكل ما يتعلق بالعمل الجماعي يجعل الاستفادة من خيارات النضال اللاعنيف أمرا في غاية الصعوبة نظرا للدور الذي تلعبه هذه المنظمات والمؤسسات في خلق وتعميق سريع لحالة التحدي السياسي الضرورية لمواجهة أي نظام دكتاتوري.
على الجانب الآخر توجد صعوبة في تحريك الأفراد لأسباب تتعلق بمخاوف وأفكار مغلوطة لديهم، ومع أن الإقرار بوجود هذه الصعوبات لا يعني استحالة القيام بنضال غير عنيف فإن البداية لا تحتاج أكثر من حركة معارضة تعرف ما تريد وتقوم بوضع خطة عمل توضح بها إمكانية وكيفية الانتقال من الدكتاتورية إلى الديمقراطية،
وما نعنيه بالخطة هنا سلسلة الحملات والنشاطات المنظمة والمصممة خصيصا لتقوية الشعب والمجتمع من ناحية، ولإضعاف نظام الحكم من ناحية أخرى، ويجب ألا تقف الخطة عند هذه النقطة بل يجب أن تتجاوز ذلك وتوضح رؤيتها لكيفية إقامة نظام ديمقراطي.
فالخطأ التاريخي الذي تقع فيه حركات المعارضة هو توقفها عند هدف إسقاط النظام الحاكم دون التفكير في كيفية إنشاء نظام ديمقراطي، وهو أمر قد يعرض التجربة للخطر بل ويجعل إمكانية ظهور نظام دكتاتوري جديد أمرا ممكنا.
إن حركات المعارضة -وهي تفكر في طبيعة المرحلة الأولى لنضالها- عليها أن تكون متفهمة لشعور الناس بالخوف والضعف؛ ولذلك يجب أن تكون المهام المطلوبة منهم بسيطة وقليلة المخاطر مثل (ارتداء ملابس معينة، توفير مياه للمتظاهرين، تعليق شارات السيارات، توقيع عرائض احتجاج).
وستلعب تلك المهام البسيطة دورا في تحفيز الناس وفي تعميق إحساسهم بالقدرة على الفعل وهو ما قد يساعد في تشجيع أفراد ومؤسسات وجماعات على الانضمام والمشاركة، بل وقد تساعد البدايات رغم بساطتها على لفت انتباه الرأي العام الدولي للقضية التي ترفعها المعارضة مثلما حدث في المظاهرات الجماهيرية في بورما عام 1988 وكذلك مظاهرات وإضراب الطلاب في بكين عام 1989.
ومن الضروري العمل على إشراك فئات المواطنين المختلفة بحيث تركز كل فئة على مجال اهتمامها، من أجل تحقيق أكبر قدر ممكن من إرهاق النظام السياسي، ومن ناحية أخرى ستشكل كل فئة مشاركة من المواطنين ضغطا على نقابتها أو على المؤسسات التابعة لها لتنضم إلي المعارضة.
على سبيل المثال وليس الحصر يمكن للطلاب أن ينفذوا إضرابا احتجاجا على قضايا تعليمية ويقوم المحامون بتنظيم إضرابات احتجاجا على قضايا قانونية.
وبذلك تكون كل فئة قد عبرت عن مشكلة تعرف تفاصيلها جيدا، وهنا تكون حركات المعارضة قد حققت أكثر من هدف في وقت واحد، أهمها أنه في حالة رفض النقابات الانضمام للمعارضة تكون الاحتجاجات الفئوية مقدمة لتكوين مؤسسات ونقابات بديلة فالمؤسسات والنقابات البديلة تخلق حالة من ازدواجية السلطة وتأتي كأحد أهم أسلحة التدخل الفعال في أساليب النضال اللاعنيف لما تمثله من أهمية في تصعيد التحدي السياسي ومن ناحية أخرى كضمان لعدم حدوث فراغ سياسي إذا نجحت المعارضة ورحل النظام.
وتبقى أساليب النضال اللاعنيف مطروحة للنقاش ليبقى الباب مفتوحا لكل الأفكار الجديدة سواء أكانت تلك الأفكار مرتبطة بابتكار أساليب جديدة أو بتصميم خطة للتنفيذ.
لقد اتخذ النضال من أجل الحقوق المشروعة أشكالا متعددة تراوحت بين العنف واللاعنف على طرفي خط مستقيم وبينهما تنويعات، من أجل ممارسة أشكال ضغط متنوعة تؤدي إلى ردع الخصم، أو تعديل مساره، أو تحجيم قوته، أو هزيمته.
ومفهوم النضال غير العنيف نعني به: "أساليب وأدوات اجتماعية ونفسية واقتصادية وسياسية لممارسة الضغوط دون اللجوء إلى استخدام القوة المباشرة"، وتتضمن هذه الأساليب ما يقرب من مائتي أداة احتجاج وضغط تمثل ما يمكن تسميته "أسلحة النضال اللاعنيف".
ويمكن القول بأن الاختلاف بين أشكال النضال هو في حقيقة الأمر اختلاف في تفسير مفهوم القوة حيث يرى أنصار النضال العنيف والمسلح القوة في صورتها الأولية والنمطية والمتمثلة في الإيذاء المادي للخصم، وهو أمر لا يمكن معارضته ونحن نتحدث عن حق أمة في الدفاع عن وطنها المحتل كما هو الحال في العراق وفلسطين.
في المقابل يفسر أنصار النضال اللاعنيف مفهوم القوة بشكل مختلف، فهم يراهنون على القوة الكامنة في المجتمع بأفراده وجماعاته ومؤسساته ويرون قوة هائلة في الضغوط التي يمكن لكل هؤلاء ممارستها على أي خصم لا سيما إذا اتسمت بالتنظيم والتصاعد، مستغلين بذلك إمكانات النضال اللاعنيف الذي اكتسب أهمية كبيرة كخيار وحيد متاح في لحظات فارقة من نضال مجتمعات عديدة في مواجهة أنظمة سياسية دكتاتورية، بعد أن أثبتت التجارب فشل استخدام العنف المباشر لتفاوت ميزان القدرات المادية وغلبة قوة القمع، بالإضافة إلى التكلفة العالية.
ومن ناحية أخرى شكلت نجاحات العديد من شعوب العالم في التخلص من أنظمتها السياسية المستبدة عن طريق النضال غير العنيف دفعة قوية جعلت منه إستراتيجية نضالية بديلة ومشروعة.
ورغم تنوع أساليب المواجهة بين العنف واللاعنف، فإن اللافت للنظر أن جماعات العنف السياسي دوما هي الأعلى صوتا والأكثر لفتا للنظر.
التحرك من النقطة صفر
النقطة صفر هي مساحة الوعي التي صادرتها الأنظمة الاستبدادية في عقول الكثيرين، لذا فالمطلوب من حركات المعارضة أن تبدأ من هذه النقطة.
والسبب الرئيسي وراء عجز وسلبية بعض الشعوب هو هذا الاعتقاد السائد بأن العنف هو الأسلوب الوحيد للمواجهة وهو أمر غير صحيح، فالعنف لم يعد خيارا مطروحا ولا مقبولا في رحلة بحث الشعوب عن لحظة خلاصها من أنظمتها السياسية المستبدة وأصبح العنف واحدا فقط من خيارات كثيرة ربما صارت أكثر فاعلية وتأثيرا من الانقلابات والثورات.
فمساوئ استخدام العنف تتمثل في النقاط التالية:
1 - تتفوق الأنظمة الدكتاتورية في مواجهة خيار العنف، بل وفي توظيفه لصالحها.
2 - تكلفته عالية على المستويين البشري والمادي.
3 - خيار العنف يفقد الدعم والتعاطف الشعبي والدولي على المدى الطويل.
إن تاريخ الأنظمة المختلفة في العالم الثالث حافل بالانقلابات العسكرية، وفي كل مرة يحدث فيها انقلاب يكون مبرر ذلك هو تردي الأوضاع ورغبة من قاموا بالانقلاب في التصحيح، ومن هنا جاء اصطلاح الانقلابات والثورات "التصحيحية" للتخلص من أنظمة ظلت تمارس القمع والاستبداد لفترات طويلة، الأمر الذي استغله من قاموا بتلك الانقلابات لكسب تأييد شعوبهم.
إلا أن الأنظمة الجديدة التي أتت بها الانقلابات لم تمثل في أغلب الحالات التاريخية تصحيحا ولا بداية جديدة كما كان متوقعا، وهنا يكمن الدرس التاريخي الذي يدفعنا إلى التحفظ على خيار الانقلابات، فاحتمالية تحول من يقومون بالانقلابات تحت شعار الحرية إلى أنظمة دكتاتورية تظل احتمالية قائمة، كما أن خيار الانقلابات يفتح الباب لانقلابات مشابهة في المستقبل يقوم بها من يملك مفاتيح القوة ولا يؤسس في الغالب لتقاليد الحريات المدنية والتحول الديمقراطي.
وفي هذا السياق يجب أن نشير إلى أن خيار الانتخابات الذي تلجأ إليه الأنظمة الدكتاتورية لا يؤدي لتحول ديمقراطي، وليس هو بالضرورة ما نعنيه باللاعنف؛ لأن إجراء انتخابات يؤدي إما للتلاعب بنتائجها أو إلغاء نتائجها بالكامل إذا أدت إلى فوز المعارضين مثلما حدث في بورما عام 1990 ونيجيريا عام 1993 وفي الجزائر عام 1991.
أضف إلى ذلك تعمد الأنظمة الدكتاتورية إقامة هذه الانتخابات في ظروف لا توفر المعايير المطلوبة لإجراء انتخابات نزيهة تضمن فرصا متكافئة لكل المتنافسين في وقت يكون النظام الحاكم فيه قادرا على تسخير كل الإمكانيات والمقدرات لخدمة مرشحيه على حساب قوى المعارضة.
وهنا يكون اللاعنف ليس قبول تلك الألعاب القمعية المستترة بل مواجهتها بالمقاومة اللاعنيفة التي تفقدها شرعيتها، مثل خيار رفض ومقاطعة تلك الانتخابات، أو اشتراط معايير لإضفاء الشرعية عليها لا تقبلها النظم القمعية بداهة مثل الرقابة المدنية المستقلة على الانتخابات، والرقابة القضائية المستقلة، والتأكد من دقة كشوف الناخبين عبر لجنة وطنية مستقلة، وغيرها.
وعندما ترفض الأنظمة ذلك فإن المعارضة آنذاك من حقها أن تلجأ لسحب الشرعية بالمقاطعة الإيجابية أي التي تستمر في المراقبة الشعبية وتقويم المخالفات التي تمت ورصدها وتعبئة الجهود السياسية لتكوين تحالفات معارضة أوسع عبر التيارات إلى أن تتمكن من إضعاف النظام وإسقاطه في النهاية.
فخيار اللاعنف يحتاج لتنظيم الجهود وتعبئة القوى وإقامة التحالفات، فهو ليس خيارا بسيطا ساذجا بل غاية في التعقيد والعمق، ويحتاج لمهارة سياسية واجتماعية وتفاوضية وتنظيمية وتعبوية عالية.
وهنا قد يفتح النظام بابا للتفاوض أو ما يسمى "الحوار الوطني" خاصة في ظل الضغوط الدولية، لكن توقيت قبول المعارضة له من أهم القرارات لأن القبول لهذه الحيلة من النظم يحمل عدة مخاطر مباشرة:
1 - تؤدي المفاوضات مع الأنظمة الدكتاتورية في ظل هيمنتها الأمنية والسياسية الكاملة إلى تنازلات في قضايا جوهرية في الغالب، منها رحيل النظام ذاته وتأسيس شرعية جديدة.
2 - قد يمثل محض قبول التفاوض مع نظام باطش وفاقد للشرعية اعترافا ضمنيا من قبل المعارضة بنظام فاسد وقبول "شراكته"، وهي مسألة تحتاج إلى نظر وحسابات دقيقة تطالب النظام بتقديم تنازلات وتغييرات محددة قبل بدء التفاوض.
3 - تمنح المفاوضات الأنظمة الحاكمة الوقت الكافي لالتقاط أنفاسها وترتيب صفوفها وهو ما يمثل فرصة للحفاظ على القوة والثروة.
4 - تعرض المفاوضات رموز المعارضة للانكشاف خاصة حين تكون حركات المعارضة سرية وهو ما يشكل خطرا عليهم ويعرضهم للبطش وربما الموت.
اللاعنف والدعم الخارجي
الفارق كبير بين بذل جهد لكسب تعاطف ومساندة الرأي العام الداخلي والعالمي بناء على أسس أخلاقية وإنسانية كهدف مشروع يضغط على الأنظمة الدكتاتورية وبين اللجوء إلى قوة خارجية بعينها والرهان عليها للتغيير وتقديم الخارج على الداخل لما له من انعكاسات خطيرة، أهمها:
1 - تساعد الدول الأجنبية الأنظمة الدكتاتورية عادة من أجل الحفاظ على مصالحها التي تناقض مصالح الشعوب، ومساندة قوى التغيير يكون في الغالب رهن الحفاظ على نفس المصالح وبالتالي فهو يجهض أجندة التغيير.
2 - الضغوط التي تمارسها الدول الأجنبية على الأنظمة الدكتاتورية تكون من أجل الحصول على مكاسب اقتصادية لا تتحقق إلا في ظل الاستقرار، وخشية أن يؤدي الركود لتغيير جذري يفقدها السيطرة الإستراتيجية، فهو ليس من أجل الديمقراطية لذاتها التي تكون أول ضحايا حسابات المصالح الدولية عادة.
3 - لا تتحرك الدول الأجنبية لتقديم المساعدات الفعلية إلا إذا نجحت المقاومة الداخلية في هز النظام الدكتاتوري وحولت تركيز العالم إلى طبيعته الهمجية وكسبت التعاطف العالمي، وعلى ذلك فالمهمة من أجل التغيير تقع على عاتق حركات التغيير بالأساس.
4 - قد يؤدي تدخل الدول الأجنبية إلى سيطرتها على الدولة وليس تحريرها من النظم الباطشة، بل قد يؤدي إلى الاحتلال وفوضى أكبر.
5 - تحاول الأنظمة الدكتاتورية في الغالب كإستراتيجية دفاعية الاستفادة من تدخل الدول الأجنبية، وتقمع حركات المعارضة تحت شعار السيادة والاستقلال، وما أسهل أن ترتدي ثوب المدافع عن الوطنية والقومية ضد محاولات الفرض الخارجي على إرادة الأمة، وأن تتحول في لحظة من خطاب الانفتاح الذي يسلم مفاتيح القلعة للخارج عمليا إلى خطاب الدفاع عن القلعة.
أسطورة سيد القرود
في كتابه "من الدكتاتورية إلى الديمقراطية" يذكر "جين شارب" المؤلف وأحد أهم المنظرين لخيار "اللاعنف" أسطورة سيد القرود وهي حكاية صينية من القرن الرابع عشر عن رجل عجوز كان يعيش في ولاية تشو الإقطاعية، ولقد استطاع هذا العجوز أن يبقى على قيد الحياة من خلال استغلاله لمجموعة من القرود حيث كان يأمرهم كل صباح بالذهاب إلى الغابة وجمع الفاكهة على أن يقدم له كل قرد عشر ما جمعه من الفاكهة وكان يعاقب كل قرد لا يلتزم بذلك بالضرب الشديد ودون رحمة، ورغم معاناة القرود الشديدة فإنهم لم يستطيعوا الشكوى أو التمرد على ذلك.
وفي يوم من الأيام سأل قرد صغير باقي القردة هل زرع هذا العجوز كل هذه الأشجار؟ فأجابوه بلا، ثم سألهم ثانية لماذا إذن نعتمد على هذا الرجل ونخشاه ولماذا لا نعتمد على أنفسنا؟ وهنا أدركت القردة ما يعنيه القرد الصغير ونفذوا خطة بسيطة خلصتهم من العجوز المستبد حيث كسروا قضبانهم واستولوا على الفاكهة التي خزنها العجوز ثم هربوا وعندما استيقظ العجوز من نومه ولم يجد القرود ولا الفاكهة كان بالفعل قد فقد مصدر قوته ووجوده فانتهت حياته وانتهت القصة.
لقد اعتمدت خطة القردة على أهم ركيزة يعتمد عليها النضال غير العنيف عند مواجهة الأنظمة الدكتاتورية وهي مصادرة منابع قوة النظام التي تضمن له البقاء والاستمرار وحرمانه منها تدريجيا.
بين أقلية عنيفة وأكثرية صامتة وسلبية وقفت العديد من الشعوب تحمل معاناتها الدائمة من أنظمتها السياسية، ورغم المحاولات القليلة التي تقوم بها بعض حركات المعارضة التي تتبنى خيار التغيير فإن هذه المحاولات تظل عاجزة عن الاستفادة من القوه الكامنة في أساليب النضال اللاعنيف المتعددة والتي اختزلتها حركات المعارضة في بعض المظاهرات والاحتجاجات، في مواجهة أنظمة تمتلك كل مصادر القوة التي تساعدها على البقاء والاستمرار في الحكم.
إن فهمنا لطبيعة ومصادر قوة الأنظمة الاستبدادية يمثل الخطوة الأولى لكي نفهم طبيعة النضال اللاعنيف الذي يعتمد على أساليب وأدوات اجتماعية ونفسية واقتصادية وسياسية لممارسة الضغوط دون اللجوء إلى أساليب عنف مباشر.
وتتضمن هذه الأساليب ما يقرب من مائتي أداة احتجاج وضغط تمثل ما يمكن تسميتها أسلحة النضال اللاعنيف. وتبقى هذه الأسلحة بلا قيمة حقيقية إذا لم يكتمل رصدنا لطبيعة ومواطن القوة في المجتمع والتي إذا لم توظفها حركة المعارضة فستكون قوة يرتكز عليها النظام الحاكم ويستمد وجوده منها.
إننا ونحن نتحدث عن الطاقة الكامنة في الشعوب وعما يمكن أن يفعله شعب قرر مواجهة نظامه الحاكم بشكل غير عنيف إنما نتحدث أولا وقبل أي شيء عن انبعاث الوعي وشيوع عدم رضا هذا الشعب عن نظامه ورفضه له بخيار اللاعنف والجهاد المدني غير المسلح.
والحق أن ما نعنيه بكلمة شعب ينقسم لكيانين منفصلين رغم العلاقة العضوية التي تربط بينهما وهما:
1 - الأفراد وجماعات المواطنين.
2 - المؤسسات والمنظمات المستقلة وكيانات وشبكات العائلات الكبيرة والمؤسسات الاقتصادية والنقابات والمجموعات الأدبية وكذلك الأحزاب السياسية والمؤسسات الدينية والثقافية والأندية الرياضية.
وحركات المعارضة -وهي تطرح وجهة نظرها في التغيير وفي ضرورة مصادرة عناصر قوة النظام الحاكم- عليها أن تضع في اعتبارها أنها تتحرك على طريقين متوازيين.
فهي (حركات المعارضة) من ناحية تخاطب أفرادا تتزايد أهميتهم على المدى الطويل وهم في النهاية هدفها الأول، ومن ناحية أخرى تخاطب مؤسسات وجماعات ومجموعات تمتلك قدرة أسرع وأقوى على التغيير وتمتلك قوة اجتماعية وعددية كبيرة وقادرة على العمل المستقل والخروج من تحت سيطرة النظام الحاكم، حيث إن هذه المؤسسات والجمعيات تتمتع باستقلالية -نظرية وقانونية على الأقل- يمكن تحويلها إلى استقلالية فعلية، مما يمكنها من إجهاض أهم مصدر من مصادر قوة الأنظمة، وهو ما يفسر اهتمام وإصرار الأنظمة الحاكمة في العالم العربي على السيطرة على هذه المؤسسات والمنظمات مثل النقابات والاتحادات الرياضية والطلابية وغيرها.
ويحدد "جين شارب" العوامل التي يتوقف عليها نجاح الأفراد والمؤسسات في السيطرة على مقومات النظام الحاكم وقطع التعاون معه في النقاط التالية:
1 - الرغبة النسبية للمواطنين في تنظيم قوتهم.
2 - عدد المنظمات والمؤسسات المستقلة.
3 - القوة النسبية لهذه المنظمات والمؤسسات ودرجة استقلاليتها في الحركة.
4 - مصادر القوة التي تمتلكها وتسيطر عليها.
5 - حجم القوة الاجتماعية التي تمتلكها ويمكن أن تستخدمها.
6 - القدرة النسبية للمواطنين على حجب رضاهم عن الحاكم وعدم تعاونهم معه.
تشريح النظام
إن أنظمة الحكم تعتمد في وجودها واستمرارها في الحكم على تعاون الشعب ومؤسسات المجتمع، ولنا أن نتخيل ما الذي يعنيه عدم التعاون مع هذه الأنظمة لنتمكن ليس فقط من فهم طبيعة ودور القوة في النضال اللاعنيف ولكن لكي نفهم بشكل دقيق مصادر القوة غير الذاتية التي تمتلكها أنظمة الحكم والتي يمكن حصرها في النقاط التالية:
1 - السلطة: ونقصد بها إيمان الناس بشرعية النظام وأن طاعته واجبة.
2 - الموارد البشرية: وتمثل الأشخاص والجماعات التي تطيع وتتعاون مع النظام الحاكم وللموارد البشرية أهمية عددية ووظيفية بالنسبة للنظام، ويسعى دوما لتجديد النخبة وضم الأنصار.
3 - المهارات والمعرفة: وهي التي يحتاجها النظام لأداء أعمال محددة، ويقوم بها الأشخاص والجماعات المتعاونون مع النظام.
4 - المصادر المعنوية: وهي العوامل النفسية والفكرية التي تحث الناس على طاعة ومساعدة الحكام مثل تسخير رجال الدين والإعلام والمفكرين والمثقفين لذلك.
5 - المصادر المادية: وهي درجة سيطرة أو تحكم النظام الحاكم ورقابته على المصادر المالية والمصادر الطبيعية والنظام الاقتصادي ووسائل الاتصال والمواصلات.
6 - نظام العقوبات: وتشمل مجموعة العقوبات التي يستخدمها أو يهدد باستخدامها النظام في مواجهة معارضيه في حالات العصيان، وتهدف هذه العقوبات إلى ضمان خضوع الشعب وتعاونه مع النظام الحاكم قسرا.
لذا فإن عملية حرمان النظام الحاكم من مصادر قوته السابقة وتجفيف منابع تلك القوة خطوة تهدف إلى إصابته بالشلل وعدم الفاعلية، والرهان الذي يقوم عليه النضال اللاعنيف هو إقناع الشعوب بضرورة عدم التعاون مع النظام والاحتجاج على ممارساته وهو أمر ليس شديد الصعوبة في حال توافر الأسباب والحجج الملموسة والمقنعة للقيام بذلك.
ويرى المنظرون للنضال اللاعنيف أن أقصر طريق لإقناع الناس بضرورة مواجهة النظام يبدأ من وجود مشاكل اقتصادية ملموسة ومرتبطة عادة بقضايا الفساد والممارسات القمعية وعدم الشفافية من قبل النظم الاستبدادية، وكلها أمور يمكن استغلالها بشكل متصاعد ومدروس على أن يتزامن ذلك مع استغلال القوة المتاحة في المجتمع.
نقاط ضعف النظام
تركز أسلحة النضال غير العنيف على نقاط ضعف الأنظمة الدكتاتورية والتي يمكن من خلالها توجيه ضربات موجعه قد تؤدي في حال استمرارها إلى انهيار النظام وفيما يلي عرض لأهم نقاط ضعف أي نظام سياسي:
1 - اعتماد النظام السياسي على التعاون الذي يقدمه الأفراد والمجموعات والمؤسسات كمصدر رئيسي لقوته بمعنى أنها قوة غير ذاتية كما قلنا سابقا ومجرد تخيل نظام سياسي بدون هذا التعاون يعني انهياره فعليا.
2 - المنافسات الشخصية والخلافات التي تحدث بين أفراد هذا النظام والتي يمكن استغلالها وتوظيفها لكسب أفراد للمعارضة أو لإضعاف النخبة.
3 - عدم فاعلية، وأخطاء مؤسسات الحكم وقصورها الناتج عادة عن سوء الإدارة وضعف الفاعلية وتردي الأداء لغياب الدافعية والإخلاص.
4 - قضايا الفساد التي يتم اكتشافها ويكون أفراد النظام متورطين فيها أو ساكتين عليها.
5 - معاناة المواطنين وتدني مستوى معيشتهم.
إن نقاط الضعف السابق ذكرها تمثل المساحات الأساسية التي تتعامل معها حركات المعارضة مع الأخذ في الاعتبار أن الحديث عن استغلال نقاط ضعف النظام هو في الحقيقة تأكيد على مبدأ أصيل في المواجهة غير العنيفة وهو ضرورة فهم الخصم جيدا واكتساب حساسية قراءة خريطة نقاط الضعف المتوقع وتحولاتها.
إن الصراع بهذا المعني يكتسب صفة الإدراك الواعي والمتابعة الذكية لما يجري، والوقوف على أرض الواقع من أجل حشد أكبر عدد من المؤيدين وتحين الفرص المناسبة.
بين النظرية والواقع
تظل الكتابة عن النضال اللاعنيف وعن أساليبه المتعددة تنظيرا لما كان عفويا في لحظة ما، ورغم أهمية ذلك المتمثلة -على أقل تقدير- في توثيق الخبرات الإنسانية المختلفة في تعاملها مع الظلم والاستبداد فإنه تبقى لكل شعب مساحته الخاصة التي تجعل الباب مفتوحا بشكل دائم لأساليب جديدة من ناحية، ومن ناحية أخرى لإعادة استخدام وتدوير الأساليب القديمة بشكل جديد.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن حتى نخرج من الحالة التنظيرية التي نحن بصددها هو: كيف يمكن للشعوب العربية الاستفادة من خبرات وقدرات النضال اللاعنيف وما هي الصعوبات التي تمنع حدوث ذلك؟.
إن ضعف وغياب مؤسسات ومنظمات المجتمع المدني المستقلة عن المجتمعات العربية، وكذلك تدخل الدولة في النقابات وكل ما يتعلق بالعمل الجماعي يجعل الاستفادة من خيارات النضال اللاعنيف أمرا في غاية الصعوبة نظرا للدور الذي تلعبه هذه المنظمات والمؤسسات في خلق وتعميق سريع لحالة التحدي السياسي الضرورية لمواجهة أي نظام دكتاتوري.
على الجانب الآخر توجد صعوبة في تحريك الأفراد لأسباب تتعلق بمخاوف وأفكار مغلوطة لديهم، ومع أن الإقرار بوجود هذه الصعوبات لا يعني استحالة القيام بنضال غير عنيف فإن البداية لا تحتاج أكثر من حركة معارضة تعرف ما تريد وتقوم بوضع خطة عمل توضح بها إمكانية وكيفية الانتقال من الدكتاتورية إلى الديمقراطية،
وما نعنيه بالخطة هنا سلسلة الحملات والنشاطات المنظمة والمصممة خصيصا لتقوية الشعب والمجتمع من ناحية، ولإضعاف نظام الحكم من ناحية أخرى، ويجب ألا تقف الخطة عند هذه النقطة بل يجب أن تتجاوز ذلك وتوضح رؤيتها لكيفية إقامة نظام ديمقراطي.
فالخطأ التاريخي الذي تقع فيه حركات المعارضة هو توقفها عند هدف إسقاط النظام الحاكم دون التفكير في كيفية إنشاء نظام ديمقراطي، وهو أمر قد يعرض التجربة للخطر بل ويجعل إمكانية ظهور نظام دكتاتوري جديد أمرا ممكنا.
إن حركات المعارضة -وهي تفكر في طبيعة المرحلة الأولى لنضالها- عليها أن تكون متفهمة لشعور الناس بالخوف والضعف؛ ولذلك يجب أن تكون المهام المطلوبة منهم بسيطة وقليلة المخاطر مثل (ارتداء ملابس معينة، توفير مياه للمتظاهرين، تعليق شارات السيارات، توقيع عرائض احتجاج).
وستلعب تلك المهام البسيطة دورا في تحفيز الناس وفي تعميق إحساسهم بالقدرة على الفعل وهو ما قد يساعد في تشجيع أفراد ومؤسسات وجماعات على الانضمام والمشاركة، بل وقد تساعد البدايات رغم بساطتها على لفت انتباه الرأي العام الدولي للقضية التي ترفعها المعارضة مثلما حدث في المظاهرات الجماهيرية في بورما عام 1988 وكذلك مظاهرات وإضراب الطلاب في بكين عام 1989.
ومن الضروري العمل على إشراك فئات المواطنين المختلفة بحيث تركز كل فئة على مجال اهتمامها، من أجل تحقيق أكبر قدر ممكن من إرهاق النظام السياسي، ومن ناحية أخرى ستشكل كل فئة مشاركة من المواطنين ضغطا على نقابتها أو على المؤسسات التابعة لها لتنضم إلي المعارضة.
على سبيل المثال وليس الحصر يمكن للطلاب أن ينفذوا إضرابا احتجاجا على قضايا تعليمية ويقوم المحامون بتنظيم إضرابات احتجاجا على قضايا قانونية.
وبذلك تكون كل فئة قد عبرت عن مشكلة تعرف تفاصيلها جيدا، وهنا تكون حركات المعارضة قد حققت أكثر من هدف في وقت واحد، أهمها أنه في حالة رفض النقابات الانضمام للمعارضة تكون الاحتجاجات الفئوية مقدمة لتكوين مؤسسات ونقابات بديلة فالمؤسسات والنقابات البديلة تخلق حالة من ازدواجية السلطة وتأتي كأحد أهم أسلحة التدخل الفعال في أساليب النضال اللاعنيف لما تمثله من أهمية في تصعيد التحدي السياسي ومن ناحية أخرى كضمان لعدم حدوث فراغ سياسي إذا نجحت المعارضة ورحل النظام.
وتبقى أساليب النضال اللاعنيف مطروحة للنقاش ليبقى الباب مفتوحا لكل الأفكار الجديدة سواء أكانت تلك الأفكار مرتبطة بابتكار أساليب جديدة أو بتصميم خطة للتنفيذ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.