الاثنين، 10 ديسمبر 2012

مشروعية الإضراب عن المشارب والمطاعم من أجل رفع المظالم




بسم الله الرحمن الرحيم

مشروعية الإضراب عن المشارب والمطاعم من أجل رفع المظالم

-الإضراب عن الطعام-

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وسلفنا المصلحين    ومن تبعهم بإحسان وإصلاح إلى يوم الدين وبعد :

فإن من نوازل الفقه في العصر الحاضر حكم الامتناع عن الأكل والشرب مدة معينة لا تضر بصحة الممتنع لمصلحة راجحة له كرفع ظلم عن نفسه أو عن غيره وهو ما يسمى بالإضراب عن الطعام وهذه الوسيلة  من وسائل التعبير عن الرأي وعادة ما يلجأ إليها المعتقلون والمسجونون والمأسورون عند وقوع الظلم عليهم أو عند تعذيبهم أو حرمانهم من حقوقهم  من اجل فضح الظلم والتشهير به وتعريته أمام الرأي المحلي والعالمي, وبما أن اختلاف الرأي من الطبائع البشرية وينتج بسبب التباين في فهم الأدلة وذلك من السنن الكونية والاختلاف بين الناس لا يفسد للود قضية, وقد اختلف سلفنا المصلحين في مسائل مهمة من الدين قبل أن يتدخل كثير من فراعنة السلاطين في تسيس الفتوى في الدين وتوجيه مفتي الحكام بالفتوى حسب شهوة ورغبة الظالمين المظلين  , فكيف في وقت أصبح فيه كثير من الناس لا يستطيع أن يبوح بما يعلم به بالدليل الناصع المبين خوفاً من تغول المفسدين.

وإن كان قد بقي من العلماء الصالحين المصلحين ممن ثبتهم الله ليكونوا حصناً حصينا لهذا الدين, حصن يجلي عنه تحريف المحرفين ويزيل عنه غبار المبتدعين .مما سوغ الخلاف في مسائل الشرع المطهر بين الفقهاء والعلماء الربانيين

وحيث إن الله قد حرم الظلم وذم مرتكبيه فإنه قد شرع للناس بل وأوجب عليهم بذل الأسباب المعينة على رفعه عن أنفسهم وعن غيرهم حتى ولو كانوا كفاراً – فضلاً عن المسلمين – ولذلك قال الله تعالى في الحديث القدسي : (( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا )) وتحريم الظلم يفيد وجوب العدل ووجوب فعل جميع الوسائل والأسباب المانعة منه وذلك لان تحريم الشي يفيد وجوب ضده.

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( انصر أخالك ظالماً أو مظلوماً )) ثم بيّن صلى الله عليه وسلم أن نصرة الظالم بمنعه عن الظلم ، أما نصرة المظلوم فإنها واضحة متجلية لا ريب فيها ويكون بالوقوف معه وشد أزره والمطالبة له برفع الظلم عنه.

وأمر النبي صلى الله عليه وسلم هنا بالنصرة للمظلوم يفيد وجوبه على جميع المسلمين كل بحسب قدرته واستطاعته قال الله تعالى(لا يكلف الله نفساً إلا وسعها.... الآية ) البقرة الآية (286) , والقول بوجوب ذلك بناءً على القاعدة الأصولية التي  ذكرها علماء الأصول وهي : أن الأصل في الأمر أنه للوجوب إلا بصارف يصرفه من الوجوب إلى الندب ولا صارف هنا فيبقى على أصله وهو الوجوب .

وإذا علم حرمت الظلم ونهى الله عنه مما يوجب نصرة المظلوم ووجوب رفع الإنسان له عن نفسه وعن غيره, ونصرة الظالم في منعه من إيقاع الظلم أدركنا جميعاً أن الأصل في المسلم أن يمتنع عن الظلم لنفسه ولغيره وأنه كبيرة من كبائر الذنوب وأن من فعله فقد أباح لنفسه ما حرم الله على نفسه ، ولذلك فإن الظالم جعل له على عباد الله ما لم يجعله الله لنفسه على عباده ، وهذا ما جعل عقوبة الظالم كبيرة في الدنيا والآخرة .

ومن هنا ندرك وجوب بذل الإنسان قصارى جهده ووسعه وجوباً شرعياً , في عمل جميع الأسباب والوسائل المعينة له على رفع الظلم عن نفسه وعن غيره وانه لا يجوز له السكوت عن المظالم الواقعة على نفسه وعلى غيره  حتى ولو أدى ذلك إلى فوات نفسه ,ولذلك  قال النبي صلى الله عليه وسلم )من قتل دون نفسه فهو  شهيد, ومن قتل دون عرضه فهو شهيد, ومن قتل دون ماله فهو شهيد ), وأما مسالة الرضا بالظلم والاستكانة له والركون إلى الظالم فإنها ليست من ثقافة الإسلام , بل هي من الثقافات الغريبة عليه والتي أسهم في نشرها في المجتمعات الإسلامية علماء السلاطين وفقهاء الاستبداد, حتى تستقيم الحياة والمعيشة للحكام الظالمين  وتقنع الشعوب الإسلامية بما يرميه لها أمراء النهب والسلب من فتات ماينهبوه من ثروات الأمة, بل ويقنعوهم أن هذا هو الأصل في دين الله العظيم , وان الصبر على الظلم هو شرع رب العالمين , وهذا غير صحيح على الإطلاق وهو ما تسبب في تأخر المسلمين وفقرهم , وتقدم الكافرين وغناهم  وتسلطهم على الشعوب الإسلامية,

 ولعل من أهم  الوسائل المعينة على رفع الظلم والتشهير بالظالمين وفضحهم أمام العالمين وسيلة الامتناع عن الطعام والشراب لفترة محددة وهي ما يسمى في وقتنا الحاضر (الإضراب عن الطعام )،وهي وسيلة يقوم بها عادة المعتقلين والمسجونين والمظلومين حينما يبلغ بهم الأذى مبلغه, فلا يبقى أمامهم إلا التقاتل مع معتقليهم وسجانيهم, أو الإضراب عن الطعام والشراب, وهذه الوسيلة وسيلة سلمية مأمونة  للإبلاغ عن المظالم والاعتقالات وفضح التعذيب وانتهاك الحقوق والحريات وهي تشابه وسيلة النطق بكلمة الحق أمام السلطان الجائر إلا أنها اقل ضرراً ونتيجة.

 ومما يجلي مشروعية الامتناع عن الأكل والشرب للإبلاغ عن المظالم , عموم الأدلة الآمرة برفع المظالم عن نفس الإنسان وعن غيره ,  دون تحديد للوسائل التي ينبغي سلوكها لذلك  مما يدل على تغيرها بتغير الزمان والمكان وان الذي يحددها هو الظروف والإمكانات المتوفرة في كل زمان ومكان وهي من أمور الدنيا الموكلة للناس في تقدير المصلحة منها من عدمها , وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (انتم اعلم بأمور دنياكم) وحيث توافرت الأدلة الشرعية الكثيرة  على ذلك ومن أهمها:


الدليل الأول :

 أن الله عز وجل قد نهى عن الظلم  وحرمه على نفسه كما حرمه بين الناس  وذمه وبين صفات الظالمين في نصوص كثيرة من القران والسنة منها :

قال الله تعالى:(ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ) المائدة :الآية( 45)وقال الله تعالى( إنه لايفلح الظالمون ) الإنعام: الآية(21 ) وقال الله تعالى )هل يهلك إلا القوم الظالمون ( الأنعام: الآية( 47) وقال الله تعالى) :ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار )إبراهيم: الآية(42)

وقال تعالى في الحديث القدسي:(( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا ))

وجه الدلالة:

أن الظلم أمر محرم شرعا والأمر المحرم شرعاً يجب على الإنسان اجتنابه والبعد عنه ,ويجب عمل جميع الأسباب والوسائل المعينة على اجتنابه, والامتناع عن الطعام والشراب  من اجل رفع الظلم والاعتراض عليه وفضح ممارسيه من أهم الوسائل الحديثة المعينة على ذلك في العصر الحاضر فتكون مشروعة.


الدليل الثاني:

 قول الله  تعالى : ( ومن الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤف بالعباد )البقرة الآية (207) ،

وجه الدلالة :

يظهر وجه الدلالة في هذه الآية من ماورد عند بن أبي شيبة والبيهقي عما فعله هشام بن عامر الأنصاري لما حمل بنفسه بين الصفين على العدو الكثير فأنكر عليه بعض الناس وقالوا : ألقى بنفسه إلى التهلكة ، فرد عليهم عمر بن الخطاب وأبو هريرة رضي الله عنهما وتليا قوله تعالى)ومن الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضات الله .. ) الآية(46)ولذلك فإن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم  رضي الله عنهم أنزلوا هذه الآية  على من حمل على العدو الكثير لوحده وغرر بنفسه في ذلك ودخل في صفوف الكفار مقاتلاً لهم  ، كما ورد ذلك عن  عمر بن الخطاب وأبي أيوب الأنصاري وأبي هريرة رضي الله عنهم فيما رواه أبو داود والترمذي وصححه ابن حبان والحاكم.فإذا كان من دخل صف العدو وحمل عليه لوحده ولو أدى ذلك لهلاكه في سبيل الله ولإعلاء كلمته ورفع الظلم عن الناس ممن يشرى نفسه ابتغاء مرضات الله فإن هذا يدل على أن الحكم يشمل أيضاً من امتنع عن الطعام والشراب إذا لم تذهب نفسه من باب أولى من اجل رفع الظلم عنه أو عن غيره.


الدليل الثالث:

 قال الله تعالى (‏إن الله اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ...الآية) التوبة الآية (111)

وجه الدلالة:

إن الله عز وجل قد اشترى من المؤمنين أنفسهم و أموالهم بثمن غالي هو الجنة  إذا قاتلوا فإما أن يقتلوا المشركين  أو يقتلون قبل ذلك.  وذلك من اجل رفع الظلم (وهو الشرك والكفر ) وغيرها من المظالم  ، قال ابن كثير رحمه الله : حمله الأكثرون على أنها نزلت في كل مجاهد في سبيل الله , ولا فرق عند من باع نفسه لربّه ، بين أن يموت  بسيف يقطع عنقه  أو رصاصة تخترق صدره ، أو جوع أو عطش يقضي عليه , مادام أن الهدف هو إعلاء كلمة الله وتحرير خلق الله من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد  فإذا جاز أن يتسبب الإنسان بذهاب نفسه من أجل رفع الظلم عن العباد فإن ماكان دون ذلك فجوازه من باب أولى وهذا يدل على جواز الامتناع عن الطعام والشراب الذي لا يصل إلى فوات النفس من باب أولى.


الدليل الرابع :

 ما رواه مسلم في صحيحه و أحمد في مسنده عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُفْرِدَ يَوْمَ أُحُدٍ في سَبْعَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ وَرَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ فَلَمَّا رَهِقُوهُ قَالَ : «‏ مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الْجَنَّةُ أَوْ هُوَ رفيقي في الْجَنَّةِ »‏ .‏ فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ ثُمَّ رَهِقُوهُ أَيْضاً فَقَالَ : «‏ مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الْجَنَّةُ أَوْ هُوَ رفيقي في الْجَنَّةِ »‏ .‏ فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى قُتِلَ السَّبْع .

وجه الدلالة:

أن كل واحد من هؤلاء الصحابة تقدم لوحده أمام جيش الكفار لصد الظلم والقتل عن رسول الله مع انه يغلب على الظن انه لن يستطيع بمفرده أن يقضي عليهم وهذا يدل على انه يجوز للمسلم أن يتقدم لأمر فيه مصلحة ظاهرة وراجحة للإسلام والمسلمين ولو أدى ذلك لفوات نفسه . وإذا جاز هذا مع فوات النفس فإن جوازه مع بقاء النفس وعدم حصول الضرر من باب أولى,  لذلك قال الإمام الشافعي رحمه الله  ( لا أرى ضيقاً على الرجل أن يحمل على الجماعة حاسراً ، أو يبادر الرجل و إن كان الأغلب أنه مقتول )وقال الإمام الغزّالي ( لا خلاف في أن المسلم الواحد له أن يهجم على صف الكفار و يقاتل ، و إن علم أنه يقتل .... و إنما جاز له الإقدام إذا علم أنه لا يُقْتل حتى يَقْتل ، أو علم أنه يكسر قلوب الكفار بمشاهدتهم جرأته ، واعتقادهم في سائر المسلمين قلة المبالاة ، وحبهم للشهادة في سبيل اللّه ، فتكسر بذلك شوكتهم ) . لم يَرَ مُعظم أهل العلم المتقدمين بأساً في الاقتحام و لو أدى إلى مهلكة.


الدليل الخامس:

ما رواه أبو داوود و الترمذي بإسناد صحيح عَنْ أَسْلَمَ أَبِى عِمْرَانَ التُّجِيبِىِّ قَالَ كُنَّا بِمَدِينَةِ الرُّومِ (القسطنطينية)فَأَخْرَجُوا إِلَيْنَا صَفًّا عَظِيماً مِنَ الرُّومِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِثْلُهُمْ أَوْ أَكْثَرُ وَعَلَى أَهْلِ مِصْرَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ وَعَلَى الْجَمَاعَةِ فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ فَحَمَلَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى صَفِّ الرُّومِ حَتَّى دَخَلَ فِيهِمْ فَصَاحَ النَّاسُ وَقَالُوا سُبْحَانَ اللَّهِ يُلْقِى بِيَدَيْهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ فَقَامَ أَبُو أَيُّوبَ الأنصاري فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الآيَةَ هَذَا التَّأْوِيلَ وَإِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِينَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ لَمَّا أَعَزَّ اللَّهُ الإِسْلاَمَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ سِرًّا دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّ أَمْوَالَنَا قَدْ ضَاعَتْ وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعَزَّ الإِسْلاَمَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ فَلَوْ أَقَمْنَا في أَمْوَالِنَا فَأَصْلَحْنَا مَا ضَاعَ مِنْهَا .‏ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم يَرُدُّ عَلَيْنَا مَا قُلْنَا (‏ وَأَنْفِقُوا في سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ )‏ [ البقرة : 195 ] فَكَانَتِ التَّهْلُكَةُ الإِقَامَةَ عَلَى الأَمْوَالِ وَإِصْلاَحَهَا وَتَرَكْنَا الْغَزْوَ فَمَا زَالَ أَبُو أَيُّوبَ شَاخِصاً فِى سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى دُفِنَ بِأَرْضِ الرُّومِ .‏ قَالَ أَبُو عِيسَى الترمذي هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ

وجه الدلالة:

أن بعض الناس يستدل بقول الله تعالى : (وَأَنْفِقُوا في سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) استدلالاً خاطئاً حيث يفهم من الآية أن الدخول في صف الكفار ومقاتلة الأعداء والنكاية بهم وفضح الظالمين والتشهير بأفعالهم مما قد يؤدي إلى فوات النفس بأنه إلقاء بالنفس إلى التهلكة وقد أوضح الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري أن الركون إلى الدنيا وعدم مجابهة الأعداء, ومقارعة الكفار وفضح الظالمين والتشهير بالطغاة والمستبدين هو الإلقاء بالنفس إلى التهلكة.أما مجابهة الكفار ومقارعة الظالمين وفضح المستبدين باي طريقة كانت فإنه يعتبر من الجهاد في سبيل الله, ومن هذه الطرق التي يمكن أن يفضح بها الظلم هي الامتناع عن الطعام والشراب فتكون مشروعة مثل بقية طرق رفض الظلم القولبة والفعلية.


الدليل السادس:

 قصة حلف الفضول والتي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : (( لقد حضرت حلفاً في دار ابن جدعان ما أود أن لي بها حمر النعم ، ولو دعيت لمثله في الإسلام لأجبت )) .

وجه الدلالة :

من المعلوم أن حلف الفضول الذي حصل قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم كان حلفاً عقد في دار عبد الله بن جدعان لنصرة المظلومين ورد الحقوق لأصحابها وقد حضره النبي صلى الله عليه وسلم مع أعمامه وبعض وجهاء قريش في ذلك الوقت ، واتفقوا على أنه لا تقع مظلمة في مكة إلا رفعوها وأزالوها وتعاهدوا على ذلك ثم توجهوا فوراً وأعادوا حق الرجل اليماني إليه ، واستمر هذا الحلف معمولاً به حتى عهد يزيد بن معاوية كما ذكر بعض أهل الحديث والتاريخ .

فهذا الحلف- والذي كان النبي صلى الله عليه وسلم أحد أطرافه- اتفاق على إزالة الظلم بجميع الطرق والأساليب وإزالة لآثاره ولم يحددوا وسيلة خاصة بذلك, ولقناعة النبي صلى الله عليه وسلم بعدالة المقصد وصحة التوجه ومشروعية رفع الظلم حتى عن الكفار . قال : (( ما أواد أن لي به حمر النعم )) . ولمعرفته بمشروعية هذا الفعل وحسن المقصد منه قال : (( لو دعيت لمثله – وفي رواية بمثله – في الإسلام لأجبت )) .

ولا أظن أحداً يعلم بهذا الحديث ثم يقول إن رفع الظلم عن جميع الناس – مسلمهم وكافرهم – ليس بمشروع .وإذا كان واجباً رفع الظلم عن الكافر بأي وسيلة مباحة كالكلام و المناصحة  أوالامتناع عن الطعام والشراب ونحوها فان رفعه عن المسلم بأي وسيلة مباحة أيضاً  أشد وجوباً.


 الدليل السابع:

 ما أخرجه عبد الرزاق في المصنف (9745) والطبري 9 / 46 وابن حبان ذكره الهيثمي في الموارد ص (214) حديث (841). أن أبا لبابة  بن عبد المنذر، حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قُرَيْظة لينـزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستشاروه في ذلك، فأشار عليهم بذلك - وأشار بيده إلى حلقه - أي:إنه الذبح، ثم فطن أبو لبابة، ورأى أنه قد خان الله ورسوله، فحلف لا يذوق ذواقا حتى يموت أو يتوب الله عليه، وانطلق إلى مسجد المدينة، فربط نفسه في سارية منه، فمكث كذلك تسعة أيام، حتى كان يخر مغشيا عليه من الجهد، حتى أنـزل الله توبته على رسوله. فجاء الناس يبشرونه بتوبة الله عليه، وأرادوا أن يحلوه من السارية، فحلف لا يحله منها إلا رسول الله صلى الله عليه [ وسلم ] بيده، فحله، فقال:يا رسول الله، إني كنت نذرت أن أنخلع من مالي صدقة، فقال يجزيك الثلث أن تصدق به.

وجه الدلالة :

أنه ثبت في قصة أبي لبابة رضي الله عنه مشروعية  تقييد النفس وحبسها والامتناع عن الأكل والشرب وهذا يدل دلالة قطعية على مشروعية الامتناع عن الأكل أو عن الشرب أو عنهما معاً لمصلحة مشروعة, وذلك لان ابا لبابة فعل ذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وقد علم النبي به ولم ينكر عليه ولو كان هذا الفعل منكرا او محرما لبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في وقت الحاجة لانه كما هو معلوم لا يجوز للنبي صلى الله عليه وسلم تأخير البيان عن وقت الحاجة.


 الدليل الثامن :

حادثة رمي المسلم بين صفوف الكفار وداخل حصونهم .

وهذا ما حصل في بعض الفتوحات الإسلامية(اليمامة) حينما طلب بعض الصحابة وهو البراء بن مالك  أن يحمل في تُرس على الرماح ثم يرمي بين صفوف الكفار داخل حصونهم ليقوم بفتحها ، وقصته مذكورة في سنن البيهقي في كتاب السير باب التبرع بالتعرض للقتل ( 9 / 44 ) وفي تفسير القرطبي ( 2 / 364 ) أسد الغابة ( 1 / 206   , وغيرها

وجه الدلالة

أنه من المعلوم أن الرمي بهذه الصفة فيه خطورة عظيمة بذاته ويترتب عليه خطورة شبة مؤكدة حينما يسقط المسلم بين جموع الكفار , والخطورة المترتبة على الرمي والسقوط بين الكفار أشد خطراً وأعظم ضرراً من امتناع الإنسان عن الأكل أو الشرب أو عنهما معاً عدة أيام ، وذلك أن الضرر في الرمي داخل حصون الكفار والسقوط عندهم مؤكد أو شبه مؤكد,  بينما الضرر في الامتناع عن الأكل أو عن الشرب أو عنهما معاً غير مؤكد بل فيه احتمال استفادة الإنسان من ذلك في  صحته .

ومع أن حمل المسلم  في تُرس على الرماح ثم رميه على الكفار داخل حصونهم لم يحصل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمر به مع إمكانيته في ذلك الوقت خاصة أنه من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم حاصر كثير من الحصون مدة طويلة كما حصل في غزوة تبوك وغيرها ولم يرد عنه انه فعل ذلك أو انه طلب من أحد من صحابته فعل ذلك.

ومع ذلك لم ينكر الصحابة رضوان الله عليهم على من طلب أن يرمي بحصن الكفار لتحصيل منفعة فتح الحصن وانتصار المسلمين, ولم يقل الصحابة رضي الله عنهم إن هذا لم يحصل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمر به وذلك لأنهم علموا المصلحة المترتبة على ذلك ، وكذلك القول في الامتناع عن الأكل أو الشرب لمصلحة رفع الظلم عن النفس أو عن غير النفس.


الدليل التاسع :

 ما جاء في قصّة أصحاب الأخدود التي رواها مسلم و الترمذي و أحمد عَنْ صُهَيْبٍ رضي الله عنه  في الحديث الطويل، و فيها قَول الغلام للملك : « إِنَّكَ لَسْتَ بقاتلي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ .‏ قال : وَمَا هُوَ قال : تَجْمَعُ النَّاسَ في صَعِيدٍ وَاحِدٍ وتصلبني عَلَى جِذْعٍ ثُمَّ خُذْ سَهْماً مِنْ كنانتي ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ في كَبِدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قُلْ بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلاَمِ .‏ ثُمَّ ارمني فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قتلتني .‏ فَجَمَعَ النَّاسَ في صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ ثُمَّ أَخَذَ سَهْماً مِنْ كِنَانَتِهِ ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ في كَبِدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قال : بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلاَمِ .‏ ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ في صُدْغِهِ فَوَضَعَ يَدَهُ في صُدْغِهِ في مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ فَقَالَ : النَّاسُ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ »‏ الحديث.

وجه الدلالة

حيث إن هذا الغلام قد أرشد الملكَ إلى الطريقة التي يتحقق بها قتله، ثم نفذها الملكُ، وتحقق بها ما رمى إليه الغلام من المصلحة العظيمة العامة من إيمان الناس كُلِّهم بالله بعدما بلغهم خبره، وما أجرى الله له من الكرامة. حيث قتلوه شهيدا في سبيل الله ، وهذا نوع من الجهاد ، مع أن  هذا الغلام المجاهد غرر بنفسه وتسبب في ذهابها حينما علّمهم كيف يقتلونه من أجل مصلحة المسلمين ، بل لم يستطيعوا قتله إلا بطريقة هو دلهم عليها فكان متسبباً في قتل نفسه ، لكن أُغتفر ذلك في باب الجهاد ، وهذا في شرع من قبلنا وشرع من قبلنا شرع لنا إذا لم يرد في شرعنا ما يعارضه , قال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله بعد ذكر قصّّّة الغلام هذه : ( و فيها أن الغلام أمر بقتل نفسه لأجل مصلحة ظهور الدين و لهذا أحب الأئمة الأربعة أن ينغمس المسلم في صف الكفار وإن غلب على ظنه أنهم يقتلونه إذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين ) ( مجموع الفتاوى : 28 /540)  ومثل ذلك  الممتنع عن الأكل والشرب لمصلحة رفع الظلم عن نفسه وعن غيره ،فيما لو تسبب ذلك في ذهاب نفسه لمصلحة المسلمين المظلومين فضلاً عن لو لم يتسبب الامتناع عن الطعام والشراب في ذهاب النفس فإن جوازه من باب أولى ,وهذا الفعل له أصل في شرعنا ، إذ لو أن رجلاً قام  محتسباً فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر وقال كلمة الحق أمام سلطان جائر حتى قتله بسبب فعله ذلك  لكان مجاهدا شهيدا ، وهو ماثبت في قوله عليه الصلاة والسلام :( سيد الشهداء حمزة ورجل قام أمام سلطان جائر فأمره ونهاه فقتله) ,  وقوله صلى الله عليه وسلم :( أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر).


الدليل العاشر :

 روى الإمام  أحمد في المسند عَنْ أَبِى إِسْحَاقَ قَالَ قُلْتُ لِلْبَرَاءِ بن عازب رضي الله عنه : الرَّجُلُ يَحْمِلُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَهُوَ مِمَّنْ أَلْقَى بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ ؟ قَالَ : لاَ لأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بَعَثَ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : (‏ فَقَاتِلْ في سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ )‏ النساء :84  إِنَّمَا ذَاكَ في النَّفَقَةِ 
وقد ورد هذا الأثر عند الإمام ابن حزم [ في المحلى : 7/294 ] عن أبي إسحاق السبيعي قال : سمعت رجلاً سأل البراء بن عازب : أرأيت لو أن رجلاً حمل على الكتيبة ، وهم ألف ، ألقى بيده إلى التهلكة ؟ قال البراء : لا ، ولكن التهلكة أن يصيب الرجل الذنب فيلقي بيده ، ويقول : لا توبة لي . 
قال ابن حزم : و لم ينكر أبو أيوب الأنصاري ، و لا أبو موسى الأشعري أن يحمل الرجل وحده على العسكر الجرار ، و يثبت حتى يقتل .

وجه الدلالة :

حيث فهم بعض الناس  أن حمل الرجل لوحده على الجيش الكبير يعتبر من رمي الإنسان بنفسه في التهلكة  وقد بين البراء بن عازب رضي الله عنه أن هذا الفهم غير صحيح وإنما التهلكة أن يقع الإنسان في الذنب ويترك التوبة لأنه يظن أن لاتوبة له.كما أن أبا أيوب وأبا موسى الأشعري لم ينكرا على من حمل لوحده على جيش الكفار فثبت حتى قتل.وإذا كان يشرع للإنسان المسلم مثل هذا الفعل وهو يعلم انه مقتول لامحالة فإن جوازه في حق من امتنع عن الأكل والشرب  لرفع الظلم عن نفسه أو عن غيره وهو يعلم بعدم فوات نفسه من باب أولى.


الدليل الحادي عشر:

ما ورد في الصحيحين من قصّة حملِ سلمة ابن الأكوع و الأخرم الأسدي و أبو قتادة لوحدهم على عيينة بن حصن و من معه ، و ثناء الرسول صلى الله عليه و سلم عليهم بقوله : «‏ كَانَ خَيْرَ فُرْسَانِنَا الْيَوْمَ أَبُو قَتَادَةَ وَخَيْرَ رَجَّالَتِنَا سَلَمَةُ ) متفق عليه.،

وجه الدلالة

جواز إقدام الإنسان على العدو لوحده إن علم انه يوقع فيهم النكاية, قال ابن النحاس وفي الحديث الصحيح الثابت : أدل دليل على جواز حمل الواحد على الجمع الكثير من العدو وحده وان غلب على ظنه انه يقتل إذا كان مخلصا في طلب الشهادة كما فعل سلمة بن الأخرم الأسدي ، ولم يعب النبي عليه الصلاة والسلام عليه ذلك, ولم ينه الصحابة عن مثل فعله ، بل في الحديث دليل على استحباب هذا الفعل وفضله فإن النبي عليه الصلاة والسلام مدح أبا قتادة وسلمة على فعلهما كما  تقدم ، مع أن كلاً منهما قد حمل على العدو وحده ولم يتأنّ إلى أن يلحق به المسلمون .وقال محمد بن الحسن الشيباني في السير (1/163): أما من حمل على العدو فهو يسعى في إعزاز الدين، ويتعرض للشهادة التي يستفيد بها الحياة الأبدية، فكيف يكون ملقياً نفسه إلى التهلكة؟ ثم قال: لا بأس بأن يحمل الرجل وحده، وإن ظن أنه يقتل، إذا كان يرى أنه يصنع شيئاً، فيقتل أو يجرح أو يهزم، فقد فعل ذلك جماعة من الصحابة بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد، ومدحهم على ذلك.

قال الحافظ ابن حَجَر في الفتح [8/185 و ما بعدها ] : أما مسألة حمل الواحد على العدد الكثير من العدو ، فصرح الجمهور بأنه إن كان لفرط شجاعته ، و ظنه أنه يرهب العدو بذلك ، أو يجرئ المسلمين عليهم ، أو نحو ذلك من المقاصد الصحيحة فهو حسن ، ومتى كان مجرد تهوّر فممنوع ، ولا سيما إن ترتّب على ذلك وهن في المسلمين ، واللّه أعلم .وإذا كانت النفس البشريّة مُلكٌ لبارئها و خالقها ، و أنّ العبد مؤتَمَنٌ عَليها ، ليس له أن يتعدّى عليها فيؤذيها أو يزهقها بغير حقّ ، فإن أداء الأمانة في أسمى صُوَرها ، يكون بِبَذلِها لصاحبها و مالكها ، فمن جاد بنفسه طواعيةً في سبيل الله فقد أدّى ما عليه و أمره إلى الله

فإذا كان هذا في الحمل على العدو وإقحام النفس في صفوفه ولو علم أو غلب ظنه وقوع القتل به ,فإن ماعداه من الأفعال التي يدفع فيها الظلم ويرفع فيها العذاب ويفضح فيها الإفساد والتي لاتصل إلى حد فوات النفس -كالإضراب عن الطعام ونحوها - جوازها من باب أولى.


الدليل الثاني عشر

ما نقل ابن النحاس عن المهلب قوله : قد أجمعوا على جواز تقحم المهالك في الجهاد ، و نقل عن الغزالي في الإحياء قوله : ولا خلاف في أن المسلم الواحد له أن يهجم على صف الكفار ويقاتل وإن علم أنه يقتل .
و نقل الإمام النووي رحمه الله [ في شرح مسلم : 12 / 187 ] الاتفاق على التغرير بالنفس في الجهاد . 
و قال الإمام القرطبي : ( و الصحيح عندي جواز الاقتحام على العساكر لمن لا طاقة له بهم , لأنّ فيه أربعة وجوه :الأول: طلب الشهادة . الثاني: وجود النكاية .الثالث : تجرئة المسلمين عليهم
الرابع : ضعف نفوسهم ليروا أنّ هذا صنع واحد فما ظنك بالجمع ) .
و في سير السلف الصالح من لدُن الصحابة الكرام فمن بعدهم رضي الله عنهم أجمعين صورٌ رائعة ، و نماذج فريدة ، تدل على مشروعيّة إنكار المظالم والعمل على رفعها عن خلق الله أجمعين حتى ولو أدت إلى فوات النفس فكيف بالأفعال التي تقصر أضرارها عن ذلك فجوازها ومشروعيتها أولى  ،, ومن أوضح الصور في ذلك موقف الإمام أحمد رحمه الله تعالى وصبره على العذاب الجسدي والجلد مقابل عدم أقراره على الظلم والتحريف في دين الله تعالى.


الدليل الثالث عشر:

أن  القاعدة الفقهيّة قد ورد النص فيها على أنّ الأعمال بالنيّة ،وذلك لما ورد في الصحيحين و غيرهما عن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -‏ رضي الله عنه -‏ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : «‏ إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ،‏ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى »‏ ،

وجه الدلالة

أن هذا الحديث يدل على أن العمل مقترن بالنية ولذلك فإنه من الظلم ومن  غير العدل بل انه من مجاوزة الحق ؛ الحكم على من أراد بامتناعه عن الأكل والشرب رفع الظلم عن نفسه أو عن غيره أن عمله محرم أو انه بدعة  مع انه كان يسعه  السكوت عن ذلك- كما سكت غيره - لكن شعوره بوجوب إنكار هذا الظلم دفعه لمثل هذا الفعل.


الدليل الرابع عشر:

 أنه من المعلوم أيضاً أن الإسلام له مقاصد كثيرة مشروعة ولعل من أهم هذه المقاصد هو حفظ حقوق الناس المادية والمعنوية ومشروعية بذل جميع الأساليب لذلك سواء على مستوى الحاكم أم على مستوى الأفراد ، والإنسان أعلم بأفضل الأساليب في وقته لرفع الظلم عن نفسه وعن غيره.


الدليل الخامس عشر :

 لو أن طبيباً قال لمريض أنه يلزمك الامتناع عن الأكل والشرب فترة من الزمن لتتحسن صحتك ويزل بأسك ومرضك,لقلنا بأنه يجب على المريض أن يلتزم بذلك ، مع أن القائل بذلك طبيب واحد !فكيف لو قال بذلك أكثر من واحد أو أدرك  الإنسان - الذي يريد الامتناع عن الأكل أو عن الشرب أو عنهما معاً - ذلك بنفسه

ومن المعلوم أن الإنسان متعبد باجتهاده أكثر من تعبده باجتهاد غيره ، وأن مصلحة مجموعة من الناس أو مجتمع كامل أهم من مصلحة فرد واحد .

فإذا كان الامتناع عن الأكل أو الشرب أو عنهما معاً سوف يكون سبباً في إزالة الظلم أو الضرر عن مجموعة من الناس مسلمين أو كفار فإنه أهم وأوجب وأظهر في المشروعية من أزالتها عن الشخص الواحد.


الدليل السادس عشر:

أن مسألة قياس الممتنع عن الأكل والشرب لرفع الظلم  على المنتحر قياس مع الفارق ، فهناك فروق تمنع من الجمع بينهما ، فهناك فرق بين المنتحر الذي يقتل نفسه جزعاً أو تسخطاً على القدر  أو اعتراضاً عليه  أو تخلصاً من الآلام والجروح واستعجالًا للموت أو يأساً من الحياة  بنفس قانطة ساخطة عاجزة يائسة ,وبين نفس الممتنع عن الأكل والشرب إنكارا للمنكر وفضحاً للظالم   بنفس  متشبثة في الحق رافضة للباطل ومتطلعة لرفع الظلم  طلباً للجنة,  وما عند الله ونصرة الدين والنكاية بالظالمين  لا يستوون في ذلك إلا عند من أعمى الله بصائرهم فحرَّموا مثل هذه الأساليب السلمية حتى لا يتعلم الناس التعبير عن رفضهم الظلم بالوسائل السلمية ولكي يركنوا إلى الظلمة يعبثوا بمصائرهم وحرياتهم ويفسدوا بأموال الأمة ومقدراتها.


الدليل السابع عشر  :

 أن الامتناع عن الأكل أو الشرب أو عنهما معاً من أجل إزالة الظلم من وسائل إنكار المنكرات العملية والسلميةً وليس فيها إفتيات على احد ,والعمل بها عمل بالمرتبة الأولى من مراتب إنكار المنكر وهي أفضل المراتب وأشرفها, فإذا شاهد إنسان أو علم أوسمع باعتقال غير مشروع أو تعذيب غير مبرر أو انتهاك لحقوق الإنسان الشرعية أو المدنية أو السياسية,وظن انه بامتناعه عن الأكل أو الشرب فترة معينة يمكن أن يسهم في رفع هذا الظلم والانتهاكات أو يفضحها أو يشهرها بين الناس حتى يتوقف الظلمة والمفسدون عن مثل هذه الإعمال  فإنه يشرع له القيام بذلك, من باب إنكار المنكرات, ومعلوم أن إنكار المنكرات من أوجب الواجبات.


الدليل الثامن عشر:

 لا يلزم أن تكون جميع الوسائل التي يخترعها الناس أو يعملون بها لإنكار المنكرات أو للتعبير عن الرأي أن تكون موجودة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لان هذا يعطل جميع وسائل إنكار المنكر الحديثة كالإنكار عن طريق رسائل الفاكس والجوال , كما يعطل الاستفادة من وسائل الإعلام الحديثة المرئية والمسموعة والمقروءة  وغيرها في إنكار المنكرات , كما أن استحداث هذه الوسائل من أمور الدنيا وليست من أمور الدين . والنبي صلى الله عليه وسلم قال : (( أنتم أعلم بأمور دنياكم )).


الدليل التاسع عشر:

 أن الامتناع عن الأكل والشرب من اجل المطالبة برفع الظلم بجميع أنواعه عمل مشروع  وهو نوع من أنواع جهاد الظلم وهو الجهاد المعطل  لأنه أفضل الجهاد في سبيل الله إذا خلصت نية صاحبه في رفع الظلم ودفع الفساد لأنه من قول كلمة الحق عند السلطان الجائر وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر ) فإذا كانت كلمة  الحق تعتبر جهاداً فإن الامتناع عن الأكل والشرب لفضح أساليب هذا الجائر وانتهاكاته لحقوق المسلمين من باب أولى بل هو من انجح الوسائل الجهادية لرفع الظلم  ومن الوسائل الفعّالة ضد  المستبدين والظلمة  لما لها من النكاية وإيقاع الألم النفسي بهم وفضحهم أمام العالم اجمع  ،ولما فيها من تجرئة المسلمين عليهم لإنكار المنكر والتصريح بالحق  وتقوية قلوبهم وكسر قلوب الظلمة والمستبدين.


الدليل العشرون :

أن هناك مجموعة كبيرة من القواعد الفقهية التي تفيد بمشروعية الامتناع عن الأكل والشرب والإضراب عنهما من اجل تحصيل مصالح مشروعة ومنها :

قاعدة: ( ما لا يتمّ الواجب إلا به فهو واجب)

وهذه القاعدة تفيد أنه إذا كان رفع الظلم واجبا على كل من قدر عليه بحسب طاقته فإن كل مالا يمكن أن يتم هذا الواجب الابه فهو واجب, فإذا علمنا انه لا يمكن رفع الظلم عن المظلومين أو عن المعتقلين أو عن المأسورين فإنه يكون واجباً .وإذا كان يمكن أن يتم الواجب وهو رفع الظلم بالامتناع عن الأكل أو غيره فإنه يكون في هذه الحالة مباحاً وذلك لأنه احد الطرق التي يمكن بها بيان اعتراض الإنسان على الظلم الواقع عليه أو على غيره في العصر الحاضر.

قاعدة : الأمر بالشيء أمر به و بما لا يتم إلا به

وهذه القاعدة تفيد انه إذا ورد أمر من الشارع بشي فإنه يعتبر أمر بكل ما لا يمكن أن يتم هذا المأمور إلا به, وعلى هذا فإن الظلم مأمور برفعه وتركه , وكل مالا يمكن أن يتم رفع الظلم إلا به, فإذا لم يكن ممكناً رفع الظلم والاضطهاد  المأمور به إلا بالامتناع عن الطعام والشراب فإنه يكون الامتناع عن الطعام والشراب مأموراً به وهذا يدل على مشروعيته بل وجوبه أحيانا إذا لم يمكن رفع الظلم إلا به

قاعدة: الضرر يزال

وهذه القاعدة تفيدأن الضرر ينبغي إزالته حتى لا يستفحل والإزالة للضررتكون بأي طريقة يمكن أن يزال بها مالم تكن محرمة,وبناءعلى ذلك فإنه إذا علم الإنسان انه يستطيع إزالة الظلم والاضطهاد عن نفسه وعن غيره بامتناعه عن الطعام والشراب فإنه ينبغي أن يفعل ذلك خاصة إذا لم يترتب على هذا الامتناع ضرر يلحق بجسده أو عقله.

قاعدة : إذا تعارضت مصلحتان تُقدَّم الأعلى، وإذا تعارضت مفسدتان تُرتكَب الأدنى

وهذه القاعدة تفيد أنه حينما تتعارض مصلحتان فإن المصلحة الأعلى تقدم على المصلحة الأدنى لأنها أكثر أهمية منها , كما أنه إذا تعارضت مفسدتان فإنه ترتكب المفسدة والضرر الأدنى والأقل وتحتمل من اجل تلافي المفسدة والضرر الأكبر والأعظم ومعنى هذا انه إذا علم الإنسان أن امتناعه عن الطعام والشراب سوف يكون سبباً في إزالة الظلم و الضرر والاضطهاد عن نفسه أو عن غيره فإنه يشرع له أن يتحمل الضرر الأدنى بامتناعه عن الطعام والشراب مقابل تلافي الضرر الأعظم الواقع عليه أو على غيره ,وغير ذلك من القواعد الفقهية التي يتبين منها انه يشرع للإنسان تلافي الضرر الأعظم وهو وقوع الظلم والاضطهاد ولو وقع على الإنسان ضرر اقل منه,  فضلاً عن إن لم يقع عليه ضرر أصلا مما يفيد مشروعية رفع الظلم والاضطهاد عن النفس وعن جميع المظلومين بأي وسيلة مشروعة كانت, ومن هذه الوسائل المشروعة الامتناع عن الطعام والشراب في مدة لا يقع عليه فيها ضرر جسدي بدني , ولاعقلي نفسي

من كل ما سبق من الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة ومن إجماع الصحابة وأقوالهم  يفيد بمشروعية إزالة منكر الظلم ورفعه ورفضه والتمانع منه بأي وسيلة يمكن بها ذلك, سواء كانت الوسيلة وسيلة ايجابية أي فيها فعل أو وسيلة سلبية فيها امتناع عن فعل .

وهذا ما يتماشى مع النصوص الشرعية التي أجازت للمسلم تجشم المشاق من اجل إعلاء كلمة الله ورفع الظلم (الشرك والكفر ) عن عباد الله حتى ولو أدى ذلك إلى فوات نفس الإنسان , بل إن ذلك كما جاء في النصوص الواردة في هجوم الإنسان بمفرده على صفوف العدو ومشروعيته حتى ولو أدى ذلك إلى ذهاب نفس المقاتل المسلم بان من فعل ذلك فإنه يعتبر شهيداًوله أجرالشهيد عند الله,فما كان اقل ضرراً من ذلك فإنه يدخل في حكمه من باب أولى إن كان من اجل إزالة الظلم والضرر الواقع على الإنسان أو على غيره.ومن ذلك امتناع الإنسان المسلم عن الطعام والشراب مدة معينة من الزمن لا تضر بالممتنع ولا بجسده ولا بعقله ولا بشي من ذلك.

كتبه في منتصف شهر صفر الخير من عام ألف وأربعمائة واثنين وثلاثين من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم .أستاذ الفقه المقارن في كلية الشريعة في جامعة القصيم

أ.د/عبد الكريم بن يوسف بن عبد الكريم بن محمد بن فهد الخضر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.